أزمة القيادة الفلسطينية- دعوات للإصلاح وتشكيل قيادة انتقالية.

تدور رحى النقاشات المحتدمة في هذه الأيام بين أوساط القوى والتجمّعات الشعبية والنخب السياسية والثقافية الفلسطينية، متمحورةً حول معضلة القيادة السياسية للشعب الفلسطيني، وضرورة ملحة للعمل الجاد على تشكيل قيادة فلسطينية انتقالية قادرة على استيعاب تطلعات الشعب، كما تتطرق إلى إعادة هيكلة المجلس الوطني الفلسطيني، وإصلاح مؤسسات منظمة التحرير، وذلك على نحو يكفل مشاركة فعّالة ومتوازنة لكافة المكونات السياسية والشعبية الفلسطينية.
لقد احتضنت العديد من التجمعات والمؤتمرات الشعبية والعديد من الشخصيات الوطنية المرموقة هذه الرؤية، وأطلقت نداءات مدعومة بعرائض تحمل توقيعات آلاف الشخصيات الوطنية البارزة، وقامات علميّة وأكاديمية راسخة، ونشطاء مجتمعيين فاعلين، فضلاً عن مؤتمرات حاشدة انعقدت في مدن متعددة مثل الدوحة وإسطنبول ورام الله ولندن، وغيرها من العواصم والمدن حول العالم، مُطالبة بعقد مؤتمر وطني جامع يتصدّى لهذه الأزمة المستفحلة، ويضع آليات عملية، ويتخذ خطوات ملموسة لتجاوزها ومعالجتها.
ما يميّز هذه التجمعات والدعوات الأخيرة، إضافةً إلى كونها صادرة عن قامات فكرية وعلمية شامخة تتوزع على نطاق جغرافي واسع يشمل مختلف القارات التي تحتضن جاليات فلسطينية، هو احتواؤها على طيف واسع من التوجهات الفكرية والسياسية والثقافية المتنوعة، فمن بين المشاركين شخصيات يسارية التوجه، وإسلامية الفكر، وقومية الانتماء، وعلمانية الرؤى، يجمعهم جميعًا، على الرغم من مواقفهم المتباينة إزاء المشروع الوطني الفلسطيني والأزمات السياسية المتفاقمة في المنطقة، حرصهم الشديد على مستقبل فلسطين.
لقد وحدّهم الهمّ الوطني الغامر والشعور العميق بالواجب المقدس تجاه شعبهم الصامد في قطاع غزة، الذي يواجه حرب إبادة جماعية بشعة، ويتعرض لوحشية غير مسبوقة من قِبل جيش الاحتلال الغاشم، ويقف بكل شموخ وعزة وكرامة في وجه المحتل، مُفشِلًا مخططاته الخبيثة ومؤامراته الدنيئة.
كما جمعهم الإجلال والتقدير لمقاومة شعبهم الباسلة واعتزازهم ببطولاتها الأسطورية، ورغبتهم الصادقة في الاستثمار الأمثل في صموده الأسطوري وبطولاته الخالدة، والعمل بكل ما أوتوا من قوة للحيلولة دون تفرد العدو وحلفائه بشعبهم ومقاومته، خاصة في ظل العجز الواضح والتقصير الفاضح في أداء قيادة "م ت ف"، والتخلي عن مسؤوليتها الوطنية في هذه اللحظة التاريخية الفارقة والحرجة.
فزع من التغيير واتّهامات جاهزة
أثار هذا التحرك المبارك حالة من الذعر والامتعاض لدى قيادة "م ت ف" والسلطة الفلسطينية، فسارعت إلى إصدار بيانات مُوقّعة باسم اللجنة التنفيذية للمنظمة، واللجنة المركزية لحركة فتح، وهما مؤسستان يتم استدعاؤهما على الدوام في الخلافات الداخلية، ولمواجهة أي محاولات جادة للتغيير والإصلاح في المؤسسة السياسية الفلسطينية.
إذ أن قيادة "م ت ف" لا تبذل جهدًا مضنيًا في أي من الملفات الشائكة بقدر ما تنشط وتستميت في مواجهة أي تغيير جوهري في الوضع الراهن في المؤسسات السياسية، وإجهاض محاولات ترتيب البيت الفلسطيني، وما تحب هي أن تطلق عليه زورًا وبهتانًا "الحفاظ على وحدانية التمثيل، ومواجهة تشكيل بديل عن "م ت ف" بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".
وعلى الرغم من تأكيد كل الحَراكات والمؤتمرات الشعبية على المكانة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحرصهم الشديد عليها، وإعلانهم الصريح بأن هدفهم الأسمى هو إصلاحها وتجديد شرعيتها من خلال مشاركة كافة أطياف الشعب الفلسطيني فيها، وبالذات فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة، فإن ذلك لم يمنع قيادة المنظمة من توجيه الاتهامات الباطلة لهم بالخروج عن الصف الوطني، والادعاء بأنهم أصحاب أجندات خارجية مشبوهة.
إن الهلع الذي يسببه التحرك الجاد لإصلاح "م ت ف" وتقويم مسارها وترتيب البيت الفلسطيني والمؤسسات السياسية الفلسطينية لدى القيادة المتنفذة، يعود إلى أسباب عديدة ومتشعبة، أهمها الضعف الشديد والشيخوخة المفرطة والعجز المتزايد لهذه القيادة، والتراجع الكبير في شعبيتها المتآكلة، وفقدان ثقة الجمهور الفلسطيني فيها وَفق العديد من استطلاعات الرأي الموثوقة، ولا يرتبط بالضرورة بفاعليّة وقوة حَراك القوى والتجمعات الشعبية.
أزمات وتحديات وطريق شائك
ولعل المتتبع الفاحص لنشاط قوى المجتمع المدني والحراكات الشعبية، يلاحظ الملاحظات الهامة التالية:
أولًا: الضعف الملحوظ في المشاركة الفعالة في القضايا الوطنية والسياسية المصيرية، إذ لم تنجح القوى الشعبية حتى الآن في حشد طاقات الشعب الفلسطيني واستنهاض الجماهير وتحريكها، ومن ثم التأثير الإيجابي والبنّاء في المسارات الوطنية في أي من المحطات الهامة. ومن أبرز معالم هذا الضعف الجلي في السنوات الأخيرة غياب دورها المؤثر عن التأثير الفعال في الانقسام الفلسطيني المرير، وعن حشد الشارع الفلسطيني للتضامن الكامل مع الحرب الأخيرة على غزة.
ثانيًا: الضعف الهيكلي والتنظيمي والإداري الذي تعاني منه القوى والمؤسسات والحراكات الشعبية، ومؤسسات المجتمع المدني.
ثالثًا: الأزمة الخانقة التي تعصف بالنقابات والاتحادات المهنية، التي ينبغي أن تشكل العمود الفقري للقوى الشعبية؛ لكونها تعبر عن قطاعات مهنية واسعة تنتمي إليها أعداد كبيرة من المهنيين، وسقوطها المدوي في مستنقع الانقسام الآسن. لقد قاد تأثير الانتماء الحزبي والتجاذب الشديد بين الفصائل الفلسطينية، وغياب ثقافة الشراكة الحقيقية إلى انقسام حاد في معظم النقابات والاتحادات المهنية، إلى الحد الذي تجد معه غالبية الاتحادات والنقابات أن لديها جسمين وقيادتين متصارعتين، الأمر الذي أضعف أداءها المهني بشكل ملحوظ، وشلّ قدرتها ودورها الوطني.
رابعًا: التأثير الإقليمي والدولي السلبي على العديد من مؤسسات المجتمع المدني، وسطوة التمويل المشروط. إذ أن غالبية مؤسسات المجتمع المدني وبرامجها وفعاليتها قد وقعت فريسة للتمويل الأجنبي المشروط، والذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد اشتراط التوقيع على وثائق ومواثيق تدين المقاومة الفلسطينية الباسلة والعمل المسلح المشروع، وتُلزم المؤسسات بتبني برامج وقضايا محددة تعمل وفقها، وهو ما جعل من الصعب جدًا على هذه المؤسسات، أن تتصرف بحرية واستقلالية في القضايا الوطنية الهامة، ووفق ما يقتضيه الواجب الوطني والقومي لا ما يقتضيه التمويل المشبوه.
خامسًا: أزمة الثقة المتبادلة والقيادة الجماعية والرغبة الجامحة في السيطرة والهيمنة لدى فرقاء المجتمع المدني والقوى الشعبية، فهم نادرًا ما تمكنوا من العمل المشترك المثمر، والتنسيق بينهم متعثر ومعقد، وإذا ما تمكنوا من التوافق والعمل المشترك فتوافقهم غالبًا ما يكون هشًا وغير دائم ولا يصمد طويلًا.
ومن الأمثلة الصارخة التي تعبر بصدق عن حجم الأزمة المتفاقمة لدى قوى المجتمع المدني، سلوكهم المتشتت والمتردد خلال التحضير للانتخابات التشريعية التي كانت ستعقد عام 2021م، والتي قام محمود عباس بإلغائها في آخر لحظة، حيث لم تتمكن هذه القوى من تجميع نفسها في قائمة انتخابية واحدة موحدة، أو حتى عدة قوائم متماسكة، كما فعلت الفصائل الفلسطينية، وقد ترشح ما يقرب من 30 قائمة غير حزبية للانتخابات.
سادسًا: الأزمة العميقة في البرنامج السياسي والرؤية الوطنية الشاملة التي تلاحق قوى المجتمع المدني، كما هو الحال بالنسبة للفصائل الفلسطينية. فلا تكاد تجد مجموعتين أو مؤسستين متفقتَين على برنامج أو رؤية وطنية واحدة جامعة، فما بين العمل الحثيث من أجل حل الدولة الواحدة أو الدولتين أو التحرير الكامل.. إلخ من البرامج الطموحة، تتوزّع الجهود والطاقات لدى القوى الشعبية الفلسطينية.
ورغم كل ما سبق ذكره من تحديات جمة وعقبات كأداء، فإن تحدّي الواقع المرير والاستجابة الفورية لمتطلبات اللحظة التاريخية الفلسطينية الحاسمة، والانسجام التام مع حركة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة أمرٌ لا مفرّ منه، والعمل المشترك البنّاء أمرٌ ممكن وضروري، ولو على مشاريع محدودة النطاق ولأجل تغيير محدود الأثر، ولكنه مُلحّ وضروري، كتشكيل قيادة انتقالية موحدة للشعب الفلسطيني، وإصلاح "م ت ف" انطلاقًا من مجلسها الوطني العتيد. هذا الأمر يتطلب من القوى والتشكيلات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني، الآتي:
- التسامي فوق الخلافات الإدارية والقيادية الضيقة وتغليب المصالح والمهام الوطنية العليا.
- بذل الجهود المضنية للتحرّر التام من أي تأثيرات خارجية سلبية، سواء كانت فصائلية أو إقليمية أو دولية.
- العمل المشترك هو ضرورة حتمية، وبدونه لا أمل يلوح في الأفق في تحقيق النجاح المنشود، وعليه فالاستجابة الفورية لدعوات التوحد والتنسيق المشترك لإنجاز الأهداف السامية، وبالذات عقد مؤتمر وطني جامع وشامل، أمرٌ في غاية الأهمية.
- التوافق على مشتركات محددة وواضحة، وتأجيل البت في القضايا الكبرى والخلافية العالقة. إذ أن هدف تشكيل قيادة فلسطينية انتقالية موحدة هو هدفٌ موضوعي وملحّ وممكن التحقيق، وكذلك هدف تشكيل مجلس وطني جامع يمثل الكل الوطني الفلسطيني.
- تجاوز الخلافات السياسية والفكرية العميقة المرتبطة بالقضايا الإقليمية الشائكة، والتركيز بشكل أساسي على الأهداف المحددة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحالة الفلسطينية، فالطائفية البغيضة والقضية السورية المعقدة أو اليمنية الدامية أو غيرها من القضايا الإقليمية الحساسة الأخرى، لا يمكن حلها وتسويتها داخل الطيف الثقافي والسياسي الفلسطيني المتنوع.
فالحل الأمثل يكمن في القدرة الفائقة على العيش المشترك ضمن إطار فلسطيني واحد، والتعايش السلمي مع الاختلاف وتقبل الآخر المختلف، وإلا فلا جدوى ولا معنى على الإطلاق للعمل العام. وليعلم الجميع علم اليقين أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا الصواب المطلق، وأن كل المواقف هي نسبية الصوابية ولا يمكن الإجماع حول أيّ منها مهما كانت.
إن المشهد الوطني والسياسي الفلسطيني الراهن في غاية التعقيد والقسوة والخطورة، وهو يتطلب تواضعًا جمًا على المستويين الإنساني والوطني، وتجرُّدًا حقيقيًا من الكثير من القضايا الذاتية والأهواء الشخصية، والتخلي عن المواقف المسبقة والتحيزات العقائدية.
وإذا كانت الفصائل الفلسطينية لديها من الحسابات السياسية والتنظيمية المعقدة ما يقيد مواقفها ويعيق تحركها الداخلي، فينبغي إذًا على قوى المجتمع المدني والنخب الثقافية والسياسية المستنيرة أن تتحرر من كل القيود والأغلال، وتتحرك بكل حرية واستقلالية بما يمليه عليها وجدانها الجمعي وحسها الإنساني المرهف وضميرها الوطني الحي وانتماؤها الصادق لهذا الشعب العظيم، الذي طالما قدّم الغالي والنفيس وضحّى بأغلى ما يملك فداءً لوطنه، وتقدم على قيادته عندما دعته الضرورة الوطنية الملحة، ولجأت إليه فلسطين مستنجدة وراجية الحماية من مكائد المستعمر الغاصب، وتخاذل الأقارب، وتآمر القوى الدولية المتغطرسة، ونجح دومًا بتوفيق من الله في حماية أرضه ومقدساته وصون حقوقه المشروعة والاستمرار في البقاء والصمود، والانبعاث من جديد كطائر الفينيق الأسطوري بعد كل هجمة استعمارية شرسة أو حملة عسكرية غادرة أو استيطانية فاشية.
وسيخرج مرّة أخرى بعد "الطوفان" الجارف كما العنقاء الأسطورية العظيمة ليكمل مسيرته المظفرة في التحرّر والاستقلال الناجز. فلا أقلّ من أن تقف مؤسسات وقوى وفعاليات المجتمع المدني ونخبه وقياداته موقفًا يعكس عظمة الموقف الشعبي العام، ويتناسب مع حجم صمود وبطولة وتضحيات مقاوميه الأبطال وفصائلهم المجاهدة.